سيطرت، على العمل الثوري السوري، ولا تزال، فكرة أن نظام الأسد سيسقط في اليوم التالي. ومع الزمن، لم يعد مهمّاً أن يكون اليوم التالي هو اليوم الثاني لإنطلاق الثّورة أم السنة العاشرة لتنكيل هذا النظام بالشعب السوري، المهم أن العقل الثوري السوري أراح نفسه من تعقيدات التفكير بأسئلة من نوع: ما هي الأليات والطرائق اللازمة لإنجاز هذا الهدف؟.
إنها أسئلة ملحة ولا تنطوي على ترف، كما أنها لا تحمل شبهة التفكير الإستراتيجي البعيد المدى، كونها تمثل أم الأسئلة في مثل هكذا حدث!. وعلى وقع ذلك الإسترخاء القدري، جرى إجراء ترتيبات موازية للتوّقع الأول بسقوط النظام في زمن ما، وقد شمل هذا الأمر، المجالين النظري والتطبيقي. والإشكالية، أنّ الثّورة ظّلت على حالها الأولى ولم تتجاوز هذا الخطأ ولم تستفد من الفترة الزمنية الفاصلة بين انطلاق الثّورة بزخمها المدني وبين صيرورة الكارثة التي تتشكّل مع ابتعادنا كل يوم عن لحظات التأسيس الأولى، كأن العقل الثوري ظل مشدوداً للنمطين المصري والتونسي" يعلن السيد الرئيس تنحيه عن السلطة" و " زين العابدين هرّب" أو إنتظار التشفّي بمصير يشبه مصير القذافي؟.
الخطأ الأساسي بدأ مع الثورة منذ لحظاتها الأولى، لم يكن هناك جهات مختصّة لعمل تقديرات حقيقية عن إمكانية صمود النظام ودراسة وتحليل قواعده ومرتكزاته، ومفاصل قوّته، ولم تضع خطة لتفكيك بناه بشكل منهجي وصحيح، ولا محاولة لإستقطاب البنى التي تؤيده على اعتبار أن ذلك الأمر ليس مهماً وسيكون تحصيل حاصل عند سقوط النظام، وأن وحدة سورية الوطنيّة أمر يكاد يشبه المسلّمات أو البديهيّات، في الوقت الذي كان السوريّون " في الأرياف والعشوائيات" يسجلون استمرارية ثورتهم بضخ كميات وافرة من دماءهم في جسد الثورة التي كان عقلها منشغلا في رسم تصوّرات عن لحظة الفرح في ساحة الأمويين وربما تدبيج الخطابات الحماسية لتلك اللحظة؟.
وبناء على هذا الخطأ تأسست جملة الأخطاء اللاحقة، فلم تبنِ الثورة بديلا متماسكاً، لا نظرياً ولا عملياً، ولم تؤسس لميثاق واضح يجتمع عليه السوريين ولا دستوراً يحدد شكل المؤسسات وطبيعة الحكم والادارة اللازمة. ثمة مبادرات في هذا الخصوص لكنها ظلّت في إطار الدراسات النظريّة والإقتراحات، ولم ترق إلى مستوى بدائل مؤسساتية حقيقية، وربما هذا ما ساهم في خلق ظاهرة "لا جدية التعامل مع الثّورة" في المنظمات الإقليميّة والدوليّة. وكان الإنذار الأهم في هذا المجال من الأمانة العامّة لجامعة الدول العربية حين فشل الإئتلاف في بناء إطار مؤسسي وتصور واضح للحكم.
بنت الثورة خطابها السياسي إنطلاقا من قناعتها بأنها صاحبة الحق، وبناء عليه لم تعمل على بناء خطة إعلامية ودبلوماسية لمخاطبة العالم الخارجي، ولم يصار الى تجهيز مؤسسات لإنجاز هذا الأمر، حتى المنابر الإعلامية الكثيرة التي تأسست كانت تخاطب جمهور الثورة، وقد يكون ذلك عملا صحيحا لرفع معنويات هذه الفئة وتوعيتها، إلا أنها بدت في مراحل كثيرة مجرد صدى متأخر لموقف هذه الفئة. وحتى إطار الحكومة المؤقتة، لم يشكل بديلا مؤسساتياً حقيقياً وفاعلاً في أحسن الاحوال يتركز عملها ضمن قطاعات معينة تقوم على تقديم مساعدات هامشية هنا وهناك، حتى أنها لم تستطع اسستقطاب المساعدات التي تؤمن لها كتلة تمويلية لمتابعة إلتزاماتها بشكل منتظم وثابت.
والحال، أنه بعد كل هذا الوقت يحق التساؤل عن الحثييات التي تملكها أطر الثورة على الأرض السورية، أو التي تستفيد منها المناطق المحررة وبيئة الثورة، باستثناء العمل العسكري، والذي تبدو صلة الثورة فيه هامشية إذ لا يمكن أن نلمح وجودا للثورة. لعلّ هذا ما يفسر اضمحلال تعبيراتها المدنية على الارض. أين مؤسسات الثورة في أرياف درعا وحلب وإدلب، في الرقة ودير الزور؟، وهل أطر الثورة مخصصة فقد للتفاوض والإعلام؟، ثم ما شكل التفاوض الذي تتوقعه في ظل حالة عدم الفعالية على الأرض؟.
حسنا لو افترضنا أن نظام الأسد سقط في المرحلة السابقة، أو حصل هذا الامر في المرحلة الراهنة، ما هي البدائل التي من شأنها أن تغطي الفراغ الذي سيحصل ؟ وما هو شكل وطبيعة السلطة التي سيجري تطبيقها، أم أن فكرة الثورة تقوم على أساس أن يتم العمل بآليات النظام وأدواته وطريقة إدارته، وأن القضية لا تتعدى إزاحة رأس النظام، كما حصل في تونس ومصر؟ هل هذا الامر ما زال ممكناً؟ ثم لماذا المطالبة بإسقاط النظام طالما أن القصة يمكن تسويتها بوجوده!.
بعد نهاية 2011 توضحت صورة الحدث السوري بدرجة كبيرة، كارثة جرى تحويلها الى صراع جيواستراتيجي عبر تشبيكها بلعبة الصراعات الدولية، وتكشّف أن الفريق الثاني في هذه اللعبة" إيران وروسيا" وصل إلى درجة تفوق حتى مستوى الشراكة بالقرار والمصير السوريين، بل صار مقرراً وفاعلاً أساسياً، ولم تُخف إيران نفسها، كما أن الواقع العملاني يشير بوضوح إلى هذه الحقيقة، والمتمثل بوجود عسكري دائم لأطراف خارجية، ما يعني أن خريطة مستقبل الوضع السوري بدأت تتكشف منذ تلك الفترة، وخاصة في ظل عدم وجود قرار دولي حازم بالتدخل لإنقاذ الشعب السوري.
ولعل من أهم مشاهد تلك الخريطة، وتضاريسها الثابتة، أن الصراع سيكون طويلاً وأن القضية باتت أشبه بقضايا التحرر، ما يعني أن الثورة باتت بمواجهة بنيتين صلبتين يحتاج تجاوزهما للوصول إلى تحقيق أهداف الثورة خريطة طريق واضحة الأهداف.
هذا يرتب على المعارضة التفكير بعمل مؤسسات ذات أهداف طويلة تنظم الفعل الثّوري الحالي، وتشكّل بديلاً مقبولا لمؤسسات النظام وأطره، أي الإبتعاد عن الوقتي والمؤقت، والتخلص من ضغط أوهام السقوط الميكانيكي لنظام الاسد، وهذا يستدعي بناء بنية مؤسساتية سلطوية في المناطق المحرّرة في إطار خطوّة يكون هدفها الأولي إستعادة زمام المبادرة لصالح الثورة ووقف حالة التدهور فيها، على أن يكون هدفها الأبعد تشكيل بديل مؤسساتي لنظام الأسد، وعبر استعادة الكوادر المدنية والتخصصية التي لجأ أغلبها الى دول الجوار أو أعيد توطينه في بلدان ثالثة، وأن يشمل ذلك ممارسة الحكومة المؤقتة لأعمالها في الداخل السوري، وقيادة كل المنضويين في أطر الثورة للعمل الميداني داخل بلدهم، بدون ذلك ستخسر الثورة الأرض والسلطة والكوادر.